الماء الطهور

الماء الطهور

 

الماء الطهور وبعض ما يتعلق به من أحكام

 

أولًا: تعريف الماء الطهور:

الماء الطهور هو: كل ماء نزل من السماء، أو نبَع من الأرض، وبقِي على أصل خلقته من حرارة أو بُرودة، أو عُذوبة أو مُلوحة؛ أي: لم تتغير أحد أوصافه الثلاثة – وهي “اللون والطعم والرائحة” – بشيء من الأشياء التي تَسلُب طهورية الماء.

 

والماء الطهور يُطلق عليه أيضًا (الماء المُطلق)؛ لأنه عارٍ عن القيود والإضافة اللازمة، فخرج بقول: (عارٍ عن القُيود) قوله تعالى: ﴿ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ﴾ [السجدة: 8]، وقوله: ﴿ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ ﴾ [الطارق: 6]، وخرج بقول: (والإضافة اللازمة) ماء الورد وماء الزعفران، والماء المُعتصر من الشجر أو الثمر؛ لأنها مياه مُقيدة بقيد لازم لا يُطلق الماء عليه بدونه.

 

واحترز بالإضافة اللازمة عن الإضافة غير اللازمة؛ كماء النهر وماء البحر، ونحو ذلك؛ لأن هذه الإضافة لا تُخرج الماء عن كونه طاهرًا مُطهرًا لبقاء الإطلاق عليه، وتُستعمل بدونها، فهي مياه مُطلقة.

وقيل: سُمي مُطلقًا؛ لأن الماء إذا أُطلق انصرف اللفظ إليه.

وقيل: هو الذي لم يُضف إلى شيء من الأمور التي تُخالطه، فإن خالطه شيء أوجَب إضافته إليه.

 

وعرَّفه الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله بقوله: “الماء الباقي على خلقته حقيقةً؛ بحيث لم يتغير شيء من أوصافه، أو حُكمًا بحيث تغير بما لا يَسلُبه الطهورية”.

فمثلًا: الماء الذي نُخرجه من البئر على طبيعته ساخنًا لم يتغير، وأيضًا الماء النازل من السماء طهور؛ لأنه باقٍ على خلقته، وهذان مثالان للباقي على خلقته حقيقةً.

 

وقولنا: (أو حُكمًا): كالماء المُتغير بغير مُمازج، أو المُتغير بما يشق صون الماء عنه، فهذا طهور لكنه لم يبق على خلقته حقيقةً، وكذلك الماء المسخن فإنه ليس على حقيقته؛ لأنه سُخِّن، ومع ذلك فهو طهور؛ لأنه باقٍ على خلقته حُكمًا)؛ ا. هـ[2].

ثانيًا: المقصود بقول: (طهور) في اصطلاح الفقهاء: عبر الفقهاء عن هذا الماء بالطهور، إلا أنهم اختلفوا في المُراد بالطهور على قولين:

القول الأول: أن الطهور هو الطاهر المُطهر، وهو مذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة.

القول الثاني: أن الطهور هو الطاهر، وهو المذهب عند الحنفية، واختاره الخرقي من الحنابلة، وهو محكي عن الحسن البصري وسفيان، وأبي بكر الأصم وابن داود، وقول بعض أهل اللغة.

 

أدلة القول الأول:

أولًا: أن لفظة طهور جاءت في لسان الشرع للمُطهر، ومن هذا:

1- قول الله تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ﴾ [الفرقان: 48]، فقوله: ﴿ طَهُورًا ﴾ يُراد به ما يتطهر به، فإن العرب تقول: طهور ووجور لِما يُتطهر به، ويُوجر به، وبالضم للفعل الذي هو مُسمى المصدر، فطهور هو صيغة مبنية لما يُفعَل به، فكلمة (طهور) معناها مُطهر؛ أي: مُطهر لغيره، ويُفسر ذلك قوله تعالى: ﴿ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ﴾ [الأنفال: 11]، فهذه الآية مُفسرة للمُراد بالأولى.

 

2- ما ورد عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أُعطيت خمسًا لم يُعطهنَّ أحدٌ قبلي: نُصِرت بالرعب مسيرة شهر، وجُعِلت لي الأرض مسجدًا وطَهورًا))[3].

فوجه الدلالة من هذا الحديث ظاهرة؛ إذ لو كان المراد بالطهور الطاهر فقط، لم يكن فيه مزية؛ لأنه طاهر في حق كل أحد، والحديث إنما سيق لإثبات الخصوصية، فقد اختص الرسول صلى الله عليه وسلم وأُمته بالتطهر بالتراب.

 

3- ما ورد عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((جُعلت لي كل أرض طيبة مسجدًا وطهورًا))[4].

فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن كل أرض طيبة جُعلت له مسجدًا وطهورًا، والطيبة: الطاهرة، فلو كان معنى (طهورًا) طاهرًا، للزم تحصيل الحاصل، وتحصيل الحاصل بالنسبة له مُحال، فتعيَّن أن يكون المراد به المُطهر لغيره.

 

4- ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سُئل عن التُوضؤ بماء البحر، فقال: ((هو الطهور ماؤه، الحِلُّ مَيتته))[5].

وجه الدلالة أنهم سألوا عن التطهر بماء البحر لا عن طهارته، وأجاب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله هذا عن سُؤالهم عن حُكم التطهر بماء البحر، ولولا أنهم يفهمون من الطهور أنه المُطهر، لَمَا حصل الجواب.

 

ثانيًا: أن العرب فرَّقت بين اسم الفاعل وصيغة المُبالغة، فقالت: قاعد لمن وُجد منه القُعود، وقَعود لمن يتكرر منه ذلك، فينبغي أن يُفرق بين الطهور والطاهر – من حيث التعدي واللزوم – فالطهور من الأسماء المتعدية، وهو الذي يُطهِّر غيره، والطاهر من الأسماء اللازمة.

 

أدلة القول الثاني:

1- قول الله تعالى: ﴿ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا ﴾ [الإنسان: 21].

وجه الدلالة أن هذه الآية في بيان نعيم أهل الجنة، ومعلوم أن أهل الجنة لا يحتاجون إلى التطهير من حدث ولا نجس، فعُلِم أن المراد بالطهور الطاهر.

 

2- قول جرير في وصف النساء:

خليليَّ هل في نظرةٍ بعد توبةٍ
أُداوي بها قلبي عليَّ فُجورُ
إِلَى رُجَّحِ الأَكفال غِيدٍ مِنَ الظِّبَا
عِذابُ الثَّنايا رِيقُهنَّ طَهورُ

 

وجه الدلالة أنه وصف الريق بأنه طهور، والريق لا يُتطهَّر به، وإنما مُراده أنه طاهر.

 

3- أن الطهور يُفيد التطهير من طريق المعنى، وهو أن هذه الصيغة للمبالغة، فإن في الشكور والغفور من المبالغة ما ليس في الغافر والشاكر، فلا بد أن يكون في الطهور معنى زائد ليس في الطاهر، ولا تكون تلك المبالغة في طهارة الماء إلا باعتبار التطهير؛ لأن في الطهارة نفسها كلتا الصفتين سواء، فتكون صفة التطهير له بهذا الطريق، لا أن الطهور بمعنى المُطهر.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

Main Menu